الخميس 12 فبراير 1970 .. يومها حذرت مصلحة الأرصاد الجوية المواطنين من موجة باردة غير مسبوقة ، لكن المئات من عمال الوردية الصباحية كانوا فى طريقهم لمصنع أبو زعبل للحديد وهم يتبادلون الحديث عن البطولات الأخيرة التى حققها الجيش المصرى على الجبهة خلال معارك حرب الاستنزاف ، كما انشغل بعضهم بالكلام عن خططهم لقضاء عيد الأضحى الذى كان سيحل بعد 4 أيام ، وفرحتهم بصرف « منحة العيد « بعد نهاية ورديتهم ، ووصل العمال للمصنع وارتدى كل واحد منهم « الأفرول « الأزرق واتجهوا نحو الورش والعنابر ، وفى تمام الثامنة والربع دوت أصوات هادرة لطائرتين فانتوم إسرائيليتين تتجهان نحو المصنع .. وقبل أن يفيق العمال من الصدمة سقط صاروخان وعدد كبير من قنابل النابالم فوق الرؤوس ، مجرد ثوان وتهدمت بنايات المصنع وتصاعدت ألسنة اللهب وانهمر شلال الدماء وتبعثرت الأشلاء فى كل مكان ، وربما يعتقد البعض أن مرور 50 سنة على الحادث جعله فى مهب النسيان .. ولكن الحقيقة أن هذا المشهد المأساوى سيظل راسخاً فى أذهان من عاشوه ويرون تفاصيله لأولادهم وأحفادهم .. فدماء الشهداء هى حق أبدى يأبى النسيان .
على مسافة 18 كم من القاهرة تقع قرية أبو زعبل أكبر تجمع سكنى وصناعى فى مركز الخانكة ، والمنطقة كانت قديما تسمى «القصير» حتى آخر أيام المماليك، ثم أطلق عليها اسم «أبو زعبل» بسبب شجر القطن الذى كانت تشتهر المنطقة بزراعته ، ويذكر التاريخ لأهالى المنطقة مقاومتهم الشديدة لجنود الحملة الفرنسية ، وظلت أبو زعبل قرية زراعية حتى عام 1827 ميلادية حينما اختارها محمد على باشا لإقامة عدد كبير من المدارس مثل مدرسة الطب والتى أصبحت اليوم « قصر العينى» ، كما أقيمت هناك أول محطة لإذاعة ماركونى البريطانية، التى منحتها الحكومة المصرية فى سبتمبر 1932 حق إنشاء محطة إذاعية يكون 55% من أسهمها ملكا للمصريين، وفى عام 1946 أنشئ مصنع الشركة الأهلية بأبو زعبل لإنتاج الحديد من الخردة برأسمال يبلغ 120 ألف جنيه ، وكان يمتلك فرناً من نوع « سمنر مارتن « وهو الأول من نوعه فى الشرق كله ، وخضع المصنع للتأميم فى الستينات وأصبح شركة قطاع عام تتبع الشركة الأهلية للصناعات المعدنية ، وكان مصنع أبوزعبل أكبر مصانع الحديد والصلب فى الشرق الأوسط وإنتاجه يغطى السوق المحلية مع تصدير الفائض منه إلى الخارج، وهو يقع على مساحة 106 أفدنة مقسمة إلى 50 فدانًا مقام عليها مصنع الدرفلة و50 فدانًا عليها الأفران والمخازن، و6 أفدنة للنادى الرياضى .
المرة الأولى
عدوان إسرائيل على منطقة أبو زعبل بدأ قبل حادث قصف المصنع بـ14 عاماً ، بالتحديد يوم 1 نوفمبر 1956 خلال العدوان الثلاثى حينما قامت القوات المعادية بتدمير عدد من المؤسسات الحيوية فى القاهرة بالتزامن مع اجتياح سيناء والهجوم على بورسعيد ومنطقة القناة ، وضمن أبرز الأماكن التى تم قصفها محطة الإرسال الرئيسية للإذاعة بأبو زعبل والتى تم ضربها وتوقفت الإذاعة المصرية ، وفى اليوم نفسه تم ضرب سجن أبو زعبل بجوار محطات إرسال الإذاعة ،وكان المقدم يوسف عباس محمد سليمان هو مأمور سجن أبو زعبل ، كانت أمامه فرصه لينجو بحياته ويهرب من القصف ، ولكنه أصر على تأمين خروج المساجين أولا فى أثناء الغارات الكثيفة على السجن لأن بقاء المساجين بالداخل يعنى موتهم لا محالة ، وواصل عمله لنحو 6 ساعات حتى نجح فى تأمين خروج كل المساجين ، وقبل أن ينجو بنفسه أصيب بقذيفة وتم نقله إلى المستشفى لكنه استشهد فى اليوم ، وكرمت الدولة اسمه بأن أطلقته على أحد الشوارع الرئيسية فى مدينة نصر .
كمين الشط
مع بدء حرب الاستنزاف نجحت العمليات المصرية فى تكبيد القوات الإسرائيلية خسائر فادحة ، والبطولات من الصعب حصرها بداية من معركة رأس العش ثم معارك القوات الجوية ومعارك المدفعية وإغراق المدمرة البحرية الإسرائيلية إيلات وتدمير الحفار كينتج وغيرها من البطولات الرائعة ، ومع بداية يناير 1970 كان واضحا أمام القيادة الإسرائيلية أن مراحل الاستنزاف المضاد لم تتمكن من تحقيق أهدافها ، لذلك بدأت تلجأ لخطة مفادها استخدام سلاح الجو الإسرائيلى لقصف العمق المصرى بكثافة أكبر لزيادة الضغط النفسى على الشعب المصرى ودفعه إلى الثورة على قيادته ، وكان الاعتماد الأكبر على المقاتلات الأمريكية الحديثة من طراز فانتوم التى حصلت عليها إسرائيل ودخلت الخدمة فعلا اعتبارا من شهر سبتمبر 1969، وصرحت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل لصحيفة الفاينانشيال تايمز يوم 6 يوليو 1970 بأن طائراتها كانت تسقط ألف قنبلة على المصريين يوميا. ، ومن أهم الكمائن التى نفذت خلال هذه الفترة كمين الشط يوم 11 فبراير 1970 والذى أحدث خسائر كبيرة فى الجانب الإسرائيلي، فقد تم تدمير دبابة وثلاث عربات وقتل 18 جندياً وأسر جنديين ، وجاء الرد الإسرائيلى بعدها بساعات من خلال مذبحة مصنع أبو زعبل .
شلال الدماء
المصنع كان يعمل به 2600 عامل وإنتاجه الوحيد هو حديد الخردة وتحويله إلى أسياخ حديد مسلح ، وكان المصنع وقتها ينتج نحو ٧٥ ألف طن حديد تسليح سنوياً ، معظم العاملين به كانوا من سكان قرية أبو زعبل ويذهبون سيرا على الأقدام أو بواسطة الدراجات .. وعدد قليل من سكان مناطق بعيدة يأتون بأتوبيسات نقل العاملين الخاصة بالمصنع أو بالقطار ، وشاءت الأقدار يوم الحادث أن تأخر وصول القطار وكأن سائقه يعلم ما ينتظر ركابه الذين وصلوا بعد موعدهم بنحو نصف ساعة ، فقد هاجمت المصنع طائرتان فانتوم إسرائيليتان فى تمام الثامنة والربع صباح يوم 12 فبراير 1970 بعد دقائق من بدء الوردية الأولى ، وأصاب أحد الصواريخ ورشة الصيانة والإصلاحات بشكل مباشر مما نتج عنه استشهاد وإصابة عدد كبير ، كما أصاب صاروخ آخر محطة المحولات بالمصنع وجانباً من وحدة الدرفلة ، ومن قوة الانفجار تفتتا قوالب الحديد المعدة للدرفلة وتحولت بدورها لشظايا قاتلة ، وتم نقل المصابين وجثث الشهداء لمستشفيات الخانكة المركزى والمرج وهليوبوليس ، وكانت الحصيلة النهائية للضحايا 83 شهيداً و 150 جريحاً نصفهم تقريباً أًصيب بعاهات مستديمة ، وكان يمكن أن يصبح العدد أكبر لولا تأخر القطار ، وبعدها بيومين قال الرئيس جمال عبد الناصر فى حوار له مع «جيمس رستون» رئيس تحرير صحيفة نيويورك تايمز : «نحن ندرس الغارة على مصنع أبو زعبل، وإذا أصبحت المسألة ضرب مصانع، فلن تكون مصانعنا وحدها معرضة للضرب» ، وبالعودة لتغطية الأهرام للحادث يوم الجمعة 13 فبراير 1970 .. فقد نشرت خبراً بعنوان « غارة إسرائيلية بالفانتوم على مصنع مدنى» واللافت فى تصريحات الناطق باسم رئاسة الجمهورية وقتها د. عصمت عبد المجيد – وزير الخارجية والأمين العام لجامعة الدول العربية فيما بعد - أن إسرائيل قتلت عمالاً أبرياء بالطائرات التى تسلمتها من أمريكا ، والتأكيد أن المصنع مدنى ومتخصص فى إنتاج حديد التسليح لأغراض البناء .. كما إنه يبعد عن أى معسكرات أو أهداف عسكرية ، وقرر الدكتور عزيز صدقى وزير الصناعة تشكيل لجان طافت منازل أسر الشهداء وصرفت 50 جنيهاً مصاريف جنازة و100 جنيه إعانة لأسرة كل شهيد ، و20 جنيهاً لكل جريح ، وكان القانون وقتها يقضى بأنه فى حالة استشهاد عامل مدنى بسبب العدوان تقوم هيئة التأمينات بتقرير معاش لأسرته يوازى 80 % من متوسط أجره الشهرى خلال السنة الأخيرة من عمله ، وتم إصدار طابع تذكارى لتخليد ذكرى شهداء مصنع أبو زعبل ، والمثير للإعجاب أن المصنع نفسه ورغم الأضرار الكبيرة التى لحقت به .. فإن عماله تكاتفوا وأعادوا العمل بالمصنع بالتدريج بعد الحادث بـ21 يوماً رغم أن الخبراء قدروا مدة زمنية أقلها 180 يوماً .
خطأ فنى
اللافت أيضاً فى هذه الجريمة هو التبجح الإسرائيلى .. فكان أول بيان على لسان المتحدث العسكرى للجيش الإسرائيلى يقول نصاً « يبدو أن أحد الطيارين الإسرائيليين أخطأ وأصاب هدفاً مدنيا» ، ثم صدر بيان ثان يشير إلى أن اجتماعاً تم مع أحد الطيارين الذين اشتركوا فى الإغارة على أهداف مصرية ، وتبين أنه ألقى قنابله خارج الهدف المحدد بسبب خلل فنى ! ، بل وتبجحت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية لدرجة أنها بررت هذه المذبحة بأن « مثل هذه الحوادث ممكنة أثناء الحرب ، وكثيراً ما يطلق بعض الجنود النار بالخطأ على زملائهم « ، وبالطبع هذا البيان كان كذبه مفضوحاً لأسباب كثيرة لم تكشفها مصر .. بل صحفية « لوموند « الفرنسية أكدت يوم 14 فبراير 1970 إن ضرب الصواريخ كان على ارتفاع منخفض وبالتالى حجة الخطأ الفنى « واهية « ، كما أن مزاعم إسرائيل – حسب الجريدة الفرنسية – تشبه تفسيرات واشنطن عندما قصفت الطائرات الأمريكية فيتنام ، وتساءلت «لوموند» : ألم تكن إسرائيل تقصد بإلقاء قنابل زمنية حول المصنع بأن تفاجئ أفراد الإنقاذ بعد انتهاء الغارة وتقتلهم ؟! ولأن التاريخ لا ينسى .. فقد أدانت روسيا هذه العملية واعتبرتها «نتيجة منطقية للمفهوم العدوانى لجنرالات تل أبيب» ، بينما لم تستنكر صحيفة بريطانية واحدة هذه الغارة الوحشية ، بل إن جريدة الدايلى تيلجراف ألقت بالمسئولية على مصر لأنها لم توافق على وقف إطلاق النار ! بينما ربطت وزارة الخارجية الأمريكية فى بيانها عن العملية بين هذه الغارة ومحاولة اختطاف فاشلة لطائرة إسرائيلية فى سويسرا ، وقالت إنها تعرب عن قلقها الشديد من الموقف فى الشرق الأوسط ، وتستنكر الهجوم الذى حدث على مصنع أبو زعبل ، وكذلك تستنكر الهجوم الذى تعرضت له طائرة العال فى زيوريخ» ، أى إنها ببساطة تساوى بين مقتل 83 عاملاً مدنياً ومقتل إسرائيلى واحد ! .
مقبرة جماعية
لم تتبق من حكايات شهداء هذا الحادث المأساوى سوى مقبرة جماعية تم دفنهم بها على مشارف القرية ، ويقول الأهالى إنه كانت توجد لوحة رخامية تذكارية مكتوب عليها أسماء الشهداء الـ83 ولكنها اختفت ، وهناك قابلنا زكى سعيد الزعبلاوي، وهو شيخ بلد قرية أبو زعبل وتوابعها، يقول : وقت ضرب مصنع حديد التسليح كان عندى 23 سنة تقريباً، وكنت فى الأرض صاعداً فوق نخلة لتقليمها ، وفجأة سمعت صوتاً كالرعد يهز السماء بشكل مخيف، فرفعت نظرى وشاهدت طائرات قادمة وراء بعضها ومندفعة فى اتجاه مصنع الحديد، وفى لمح البصر تحول المصنع إلى كتلة نيران، بينما تعالت صرخات الهلع من العمال والأهالى ، نزلت أجرى نحو المصنع مع أهل البلد وبمجرد الوصول للبوابة استقبلتنا الجثث الغارقة فى بحر من الدماء ، كانت هناك وجوه لجثث مبتسمة رغم تفحمها ، عمال مصنع الحديد كانوا طيبين جدا و « غلابة « ويأتون صباحاً فى أتوبيسات تابعة للمصنع ، ووسط حالة الذهول مما حدث ومع قلة الإمكانيات وقتها بدأ أهل البلد فى نقل المصابين الى المستشفيات فى سيارات المصنع، وجمعنا ما تبقى من أشلاء الضحايا والشهداء فى براميل بلاستيكية ، كانت الجثث مشوهة تماما ، وقامت اللجنة النقابية بالشركة الأهلية للصناعات المعدنية التى كان يتبعها المصنع بإنشاء مقبرة جماعية كبيرة بمقابر أبو زعبل لشهداء المصنع ، وعقب الضرب مباشرة وجدنا جميع قيادات الدولة وقتها هنا فى ابو زعبل، وبعدها عاد المصنع للعمل بكامل طاقته بعدما خطب الرئيس عبد الناصر وتوعد إسرائيل بأن الضرب لن يمس مصانعنا فقط بل سيمتد للعمق الإسرائيلى ، والكارثة كانت يمكن أن تكون أكبر لولا لطف الله، فلو ضرب طيران الفانتوم مصنع أبو زعبل للأسمدة الذى كان يتبع أيضا الشركة الأهلية للصناعات المعدنية، لكانت أبو زعبل ستتحول كلها لقطعة من اللهب، فذلك المصنع كان ينتج مواد شديدة الانفجار.
والتقط طرف الحديث السيد أحمد محمود سمك، 79 سنة، والذى كان عاملاً فى مصنع أبوزعبل للأسمدة بجانب مصنع الحديد ، يقول : يوم القصف الإسرائيلى كان شديد البرودة ، خاصة أن المنطقة زراعية وحدائق المشمش والتين الشوكى كانت تحيط بالمصنع، ونحن فى وردية الصباح، وكان هناك اجتماع للجنة النقابية العمالية لمصنع الأسمدة، وبينما كنا فى الاجتماع سمعنا صوت طائرات الفانتوم تهز جدران المصنع فخرجنا فى شرفات ونوافذ المصنع ووجدنا طائرتين على مستوى منخفض جدا، وقتها القيادى العمالى يحيى الكومى كان رئيساً للجنة النقابية وسمعته يصرخ بشكل هيستيرى «الطيران ده رايح يعمل مصيبة»، مع نهاية عبارته سمعنا صوت انفجار كبير، وكان الحادث بشعاً ، 83 مهندساً وعاملاً مدنياً من خيرة شبابنا وقتها استشهدوا فى 10 دقائق هى مدة ضرب المصنع، وكان مصنع حديد أبوزعبل أول هدف مدنى كبير تضربه إسرائيل فى العمق، وبعدها تعهد العمال بإعادة تشغيل المصنع وأوفوا بوعدهم .
التراب الأحمر
ويقول عباس أبو شحاتة ، 70 سنة : أنا وكل عائلتى ولدنا ونعيش فى أبو زعبل ، وأتذكر جيداً وقت ضرب المصنع ، فقد كانت لدينا قطعة أرض زراعية عند نهاية سور المصنع، وقتها كنت موجوداً فى الأرض لريها وزراعتها ، فتلك المنطقة لم يكن بها غير مصنع حديد التسليح ومصنع الكيماويات والأسمدة ومعسكر جيش وسجن أبو زعبل ومستشفى عام .. ثم مساحات من الأراضى الزراعية ، وضرب المصنع تم وقت تسليم وتسلم الورديات، وقد فوجئت بالطيران يظهر على ارتفاع منخفض جدا من سطح الأرض وكاد يلامس رؤوسنا ، وخلال ثوانى سمعت صوت انفجار كبير ثم وجدت ألسنة النيران تتصاعد من داخل المصنع، وسارع أهل البلد والعمال الناجون من القصف لإنقاذ الجرحى ، لكننا وجدنا جثثاً كثيرة متفحمة ومشوهة ، وهناك بعض المصابين توفوا فى الأيام التالية بعد نقلهم للمستشفى ، لكن مشهد العمال وهم مرتدون بدلهم الزرقاء وغارقون فى دمائهم كان يشبه « الكابوس « ، فالدماء كانت سائلة لدرجة أن تراب ارض المصنع تغير لونه إلى الأحمر ، ولم نصدق أن العمال الطيبين الذين كانوا قبلها بدقائق يلقون علينا تحية الصباح انتهت حياتهم بهذا الشكل ، وتحولت خلايا النحل التى كانت تعمل بالمصنع إلى أشلاء متناثرة فى كل الأرجاء، وبعدما كان المصنع ممتلئًا بعربات نقل الحديد، تحول إلى مَوقَف لسيارات الإسعاف تحمل الجرحى للمستشفيات، وعلى الباب أصوات بكاء المئات من أهالى العاملين يسألون عن مصير أبنائهم.
الكابوس
طارق عبد المنعم محمد العزالى ، لم يكن فقط موظفاً بمصنع أبو زعبل للحديد .. لكن والده -والذى توفى فى 16 فبراير 2019 - كان كذلك عاملاً بالمصنع وعاش لحظات الرعب خلال القصف الإسرائيلى ، يقول : والدى بدأ العمل بالمصنع وعمره 14 سنة ، كان مجرد «صبى» وتدرج حتى أصبح اسطى ثم كبير ملاحظين درجة مدير عام وظل يعمل بالمصنع نحو 42 سنة ، كما دخل النقابة العمالية فى عام 1970 وكان سكرتيرا فى الدورة الأولى وتدرج فى العمل النقابى حتى أصبح نائب رئيس اتحاد عمال مصر ، كما كان عضواً بمجلس الشعب 3 دورات متتالية عن العمال، وكرم اسمه الرئيس عبد الفتاح السيسى العام الماضى فى احتفالات عيد العمال، كان عمرى وقتها 10 سنوات لكننى مازلت أذكر ما حدث جيداً ، كان معظم العمال يسكنون منطقة أبو زعبل .. ولذلك سمعنا فى بيوتنا من البداية أصوات الطائرات التى كانت تهبط على ارتفاع منخفض ، وكان صوت الصواريخ والقنابل والانفجار مرعباً ، وجريت مع الأهالى نحو المصنع وكان المشهد دموياً أشبه بالكابوس .. الخراب فى كل مكان والفجوات عميقة جداً بسبب الانفجار بينما الأشلاء متناثرة والأرض مغطاة بالجثث والمصابين ، ووالدى أصيب بشظية فى ذراعه اليمنى .. ورغم نجاته بأعجوبة لكنه ظل حتى آخر يوم فى حياته متأثر بفقدانه لأصدقائه وزملائه ، أما أنا فبعدما أنهيت خدمتى العسكرية عام 1984 كنت مدرساً ولكننى طلبت نقلى للمصنع فى وظيفة مشرف تغذية وأخصائى اجتماعى ، وظللت هكذا حتى عام 1998 بعدما تم فتح باب المعاش المبكر .
هنا يتجسد الصراع
لم يكد يمضى 55 يوما على قتل العمال فى أبو زعبل حتى عاود الإسرائيليون رواية حكايتهم الدموية, وشنوا هجوما وحشيا بنفس الطريقة ظهر يوم الأربعاء 8 ابريل 1970 على الأطفال الأبرياء بمدرسة بحر البقر الابتدائية بمحافظة الشرقية , 5 طائرات إسرائيلية أطلقت 5 قنابل وصاروخين لتدمير مدرسة تضم 3 فصول فقط .. والنتيجة كانت استشهاد وإصابة 69 تلميذا ، وإسرائيل بررت المذبحة بأن المدرسة كانت « هدفاً حربياً « والتلاميذ يقومون بتدريبات عسكرية ! وفى 1 مايو 1970 كان آخر خطاب للرئيس جمال عبد الناصر بمناسبة عيد العمال وقد ألقاه من شبرا الخيمة ، وقال فيه « لقد قصدت أن أحضر عيد العمال معكم هنا فى فى المنطقة الصناعية الكبرى التى تمثل أبو زعبل قطعة منها وامتداداً عضوياً لها ، أردت ذلك لأنه ما من شيء يشرح الحقيقة فيما نمثله وفيما ندافع عنه وفيما نقاتل من أجله كذلك المثل الأعلى الذى نستطيع أن نستلهمه من هنا، فما حدث فى أبو زعبل يجسد الصراع بيننا وبين العدو ، مصنع ناجح يتصل العمل فيه ثلاث ورديات تستغرق كل الـ ٢٤ ساعة فى اليوم .. ينتج هذا المصنع ٧٥ ألف طن من حديد التسليح الذى يستخدم فى البناء وبالتالى فإن المصنع كله يكاد أن يكون رمزاً حياً لأمل التشييد والتعمير ، هذا هو المصنع الذى بنيناه وعملنا فيه ووجهنا طاقته إلى خدمة الحياة ، فلننتقل - أيها الإخوة - إلى ما حدث لهذا المصنع صباح يوم ١٢ فبراير .. فجأة وعلى ارتفاع منخفض تسللت طائرات الفانتوم التى أرسلتها الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل سنة 1969 تسللت وتوجهت إلى هذا المصنع بنيرانها بالصواريخ وقنابل النابالم والقنابل الموقوتة زمنياً وبعد دقائق أيها الإخوة كان أحد العنابر الرئيسية فى هذا المصنع صورة للدمار والموت وكانت الخسارة تقدر بـ ٣٥٠ ألف جنيه وكانت الخسارة ٨٨ عاملاً شهيداً و ١٥٠ عاملاً جريحاً ، الآلات التى كانت فى هذا العنبر تحطمت ومزقتها الانفجارات وكانت الجروح - جروح الجرحى - جروحا محرقة أحدثتها نيران قنابل النابالم التى أمدت بها الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل وكانت القنابل الموقوتة - القنابل الزمنية - مدفونة فى الأرض وهذه القنابل أمدت بها الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل ولم يكن لها من هدف إلا أن تكون مصيدة موت ودمار أخرى للقادمين من فرق الإنقاذ والإسعاف».
غلق المصنع
فجأة وبدون مقدمات توقف المصنع فى عام 1999، وانطفأت أفران الصهر والصب وأغلقت الورش أبوابها، تم تفريغه من عماله بإحالتهم إلى المعاش المبكر، أما ورش الإنتاج فهى خالية وانقطع التيار الكهربائى وأصبحنا أمام مجرد أكوام من الخردة ، وفى عام 2002 أعلنت الشركة تصفيته بسبب ديونه التى وصلت لنحو مليار ونصف مليار جنيه، وزاد من مشاكل المصنع المنافسة الشديدة وقتها بين شركات الحديد وقرار إعفاء حديد التسليح المستورد كمنتج نهائى من الضرائب، والنتيجة الآن أن المصنع أصبح مجرد ذكرى .. فهو حالياً مجرد مساحة كبيرة من العنابر مهجورة وبقايا ماكينات يعلوها الصدأ.
خطاب مفتوح
أصدرت نقابة العمال عقب الحادث كتيباً بعنوان « أمريكا قتلت عمالنا « ، وضمن صفحاته كان هناك نص خطاب أرسله أحد عمال مصنع أبو زعبل إلى الرئيس الأمريكى وقتها ريتشارد نيكسون جاء فيه « خطاب مفتوح .. من عامل بمصنع أبى زعبل إلى فخامة الرئيس نيكسون ، نموت بالنابالم ولا نركع لغير الله ياسيدى الرئيس ، لقد كانت هديتك إلينا نحن عمال المصنع المدنى فى أبى زعبل طيبة جدا .. ونحن نشكرك عليها لأن العمال المدنيين كان لهم شرف التضحية بالدم والروح كجنود القوات المسلحة ، هديتك المرسلة جوا , على جناح الفانتوم من الصواريخ السامة , وقنابل النابالم وصلت إلينا كاملة ، أعذرنى يا فخامة الرئيس اذ قلت لكم أن الحرية عندكم تمثال ، أننى عامل بسيط لا أفهم كثيرا فى السياسة يا فخامة الرئيس .. ولكنى أكتب اليك هذا الخطاب بدماء شهداء إخوتى فى أبى زعبل .. مصنع للبناء هدمتموه .. مصنع للسلام حاربتموه . مصنع للحياة أمطرتم عليه الموت» ، وفى الصفحة الأخيرة من عدد الأهرام بتاريخ 24 فبراير 1970 .. نشر صلاح جاهين قصيدته الخالدة :
إحنا العمال اللى اتقتلوا.. قدام المصنع فى أبو زعبل
بنغنى للدنيا ونتلو.. عناوين جرانين المستقبل
وحدة صف الأحرار.. جبهة لكل الثوار
عبور الجيش لسيناء.. الزحف من الأغوار
جيش العدو يتقهقر.. الأرض قايدة نار
رابط دائم: